سورة الكهف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


قلت: {إلا إبليس}: استثناء منقطع، إذا قلنا: إن إبليس لم يكن من الملائكة، وإذا قلنا: إنه منهم يكون متصلاً، ويكون معنى {كان} صار، أي: إلا إبليس صار من الجن لمَّا امتنع من السجود، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن، وهم الذين خُلقوا من النار. وجملة {كان من الجن}: استئنافية سيقت مساق التعليل، كأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان أَصْلُهُ جنِّيًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إِذْ قلنا للملائكةِ} أي: وقت قوْلنا لهم: {اسجدوا لآدمَ} سجود تحية وتكريم، {فسجدوا} جميعًا؛ امتثالاً للأمر، {إِلا إِبليسَ} أبى واستكبر؛ لأنه {كان من الجنِّ}، وكان رئيسهم في الأرض، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة، فغزوهم، فهربوا في أقطار الأرض، وأُخذ إبليس أسيرًا، فعرجوا به إلى السماء، فأسلم وتعبد في أقطار السماوات، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله، {ففسقَ} أي: خرج {عن أمر ربه} أي: عن طاعته، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى؛ إذ لولا ذلك لَمَا أبى، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق؛ لبيان كمال قُبح ما فعله.
قال تعالى: {أفتتخذونه وذريَّتَه} أي: أولاده، أو أتباعه، وهم الشياطين، جُعلوا ذريةً؛ مجازًا. وقال قتادة: إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل: يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. والهمزة للإنكار والتعجب، والفاء للتعقيب، أي: أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه، تتخذونه وذريته {أولياءَ}؛ أحبار {من دوني}؛ فتستبدلونهم، وتطيعونهم بدل طاعتي، والحال أنهم، أي: إبليس وذريته {لكم عدو} أي: أعداء. وأُفرد؛ تشبيهًا له بالمصدر، كالقبول والولوع، {بئس للظالمين}: الواضعين للشيء في غير محله، {بدلاً} استبدلوه من الله تعالى، وهو إبليس وذريته. وفي الالتفات إلى الغيبة، مع وضع الظاهر موضع الضمير، من الإيذان بكمال السخط، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح، ما لا يخفى.
{ما أشهدتُهم} أي: ما أحضرت إبليس وذريته، أو: جميع الكفار {خلْقَ السماواتِ والأرضِ}، حيث خلقتهما قبل خلقهم، {ولا خلقَ أنفسهم}: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض: كقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النِّساء: 29]. قاله البيضاوي.
قلت: الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها، أي: ما أحضرتهم خلق أنفسهم، أي: ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السماوات بالتخمين، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم، من كل متخوض في هذه الأشياء، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.
قال تعالى: {وما كنت مُتَّخِذَ المضلِّينِ} من الشياطين {عَضُدًا} أي: أعوانًا في شأن الخلق، أو في شأن من شؤوني، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي، وكان الأصل أن يقول: وما كنت متخذهم، فوقع المظهر موقع الضمير؛ ذمًا لهم، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم؛ حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان، فيحتاجون إلى التصريح به.
انظر أبا السعود.
الإشارة: في الآية تنفيرٌ من الاستكبار والترفع على عباد الله تشبهًا بإبليس، وحثٌ على التواضع والخضوع لله في خلقه وتجلياته كيفما كانت، وفيها أيضًا الحض على إفراد الوجهة والمحبة لله، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن الله، وفيها أيضًا: النهي عن التطلع إلى ما لم يَرِدْ به من أسرار القدر نصٌ صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله من أسرار القدر، وفيها أيضًا: النهي عن الاستعانة بأعداء الله في شأن كان. وبالله التوفيق.


قلت: {موبقًا}: اسم مكان، أو مصدر، من: وَبَقَ وبوقًا، كوثب وثوبًا، ووَبِقَ وبَقًا، كفرح فرحًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {يومَ يقولُ} الحق تعالى للكفار؛ توبيخًا وتعجيزًا لهم: {نادُوا شركائِيَ الذين زعمتم} أنهم شفعاؤكم؛ ليشفعوا لكم، والمراد بهم كل ما عُبد من دون الله، أو إبليس وذريته، {فَدَعَوْهم} أي: نادوهم للإغاثة، {فلم يستجيبوا لهم}: فلم يُغيثوهم، {وجعلنا بينهم} أي: بين الداعين والمدعوين {مَّوبقًا} أي: مهلكًا يهلكون فيه جميعًا، وهو النار، وقيل: العداوة، وهي نوع من الهلاك، لقول عمر رضي الله عنه: «لا يكن حُبك كَلَفًا، ولا بُغْضك تلفًا». وقيل: المراد بالبيْن: الوصل، أي: وجعلنا وصلهم في الدنيا هلاكًا في الآخرة، كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعَام: 94]، وقيل: المراد بالشركاء: الملائكة، وعُزير، وعيسى- عليهم السلام-، ويراد حينئذ بالموبق: البرزخ البعيد، أي: وجعلنا بينهم وبين من عبدوهم برزخًا بعيدًا؛ لأنهم في قعر جهنم، وهم في أعلى عليين.
{ورأى المجرمون النارَ}، وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرِ؛ تصريحًا بإجرامهم، وذمًا لهم، أي: ورأوا النار {فظنوا} أي: أيقنوا {أنهم مُّواقعوها}؛ مخالطوها وواقعون فيها، {ولم يجدوا عنها مَصْرِفًا} أي: انصرافًا ومعدلاً ينصرفون إليه، نسأل الله السلامة من مواقع الهلاك.
الإشارة: من اتخذ الله وليًا، بموالاة طاعته وإفراد محبته، كان الله له وليًا ونصيرًا عند احتياجه وفاقته، ومجيبًا له عند دعائه واستغاثته، ومن اتخذ وليًا غير الله خاب ظنه ومناه، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقًا وبرزخًا بعيدًا، ومن وَالَى أولياء الله فإنما والى الله، {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفَتْح: 10]. وبالله التوفيق.


قلت: {جَدَلاً}: تمييز، و{ربك}: مبتدأ و{الغفور}: خبره، و{ذو الرحمة}: خبر بعد خبر، وقيل: الخبر: {لو يؤاخذهم}، و{الغفور ذو الرحمة}: صفتان للمبتدأ، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة؛ للتنبيه على كثرة الذنوب، وأيضًا: المغفرة ترك المؤاخذة، وهي غير متناهية، والرحمة فعل، وهو متناهي، وتقديم الوصف الأول؛ لأن التخلية قبل التحلية، و (المُهْلَك)؛ بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر، من أهلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للمفعول؛ لأن الفعل متعد، وقرئ بفتح الميم، من هلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للفاعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد صرَّفنا} أي: كررنا وأوردنا على وجوهٍ كثيرة من النظر العجيب، {في هذا القرآنِ للناس}؛ لمصلحتهم ومنفعتهم، {من كل مَثَلٍ}؛ من كل خبر يحتاجون إليه، أو: من كل مثل مضروب يعتبرون به، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين، ومثل الحياة الدنيا. أو: من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان، التي هي، في الغرابة والحسن واستجلاب القلوب، كالمثل المضروب، ليتلقوه بالقبول، فلم يفعلوا. {وكان الإنسانُ} بحسب جِبلَّته {أكثرَ شيءٍ جدلاً} أي: أكثر الأشياء، التي يتأتى منها الجدل، جدلاً، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل، والمعنى: أن جدله أكثر من جدل كل مجادل، وفيها ذم الجدل. وسببها: مجادلة النضر بن الحارث كما قيل، وهي عامة.
{وما منع الناسَ} أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم، من {أن يؤمنوا} بالله تعالى، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك، {إِذْ جاءهُم الهُدَى} أي: حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز، فيؤمنوا، {ويستغفروا ربهم} عما فرط منهم من أنواع الذنوب، التي من جملتها: مجادلتهم للحق بالباطل، {إِلا أن تأتيهم سُنَّةُ الأولين} أي: ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره، فيكون على حذف مضاف، أي: انتظار سنة الأولين، وهو الهلاك. قال ابن جزي: معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سُنَّة الأمم المتقدمة، وهي الإهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب أي: عذاب الآخرة. اهـ. قلت: والظاهر أن معنى الآية: ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانًا، كعادة الأمم الماضية، فيهلكوا كما هي سُنَّة الله في خلقه، أو: عذاب ينزل بهم جهرًا، وهو معنى قوله: {أو يأتيهم العذابُ قُبُلاً} أي: مقابلة وعيانًا.
قال تعالى: {وما نُرسل المرسلين} إلى الأمم {إِلا مبشرين ومنذرين} أي: مبشرين للمؤمنين بالثواب، ومنذرين للكافرين بالعقاب، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات، {ويُجادل الذين كفروا بالباطل}؛ باقتراح الآيات؛ كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها. يفعلون ذلك {ليُدْحِضُوا به} أي: بالجدال {الحقَّ}، أي: يزيلونه عن مركزه ويبطلونه، من إدحاض القدم وهو إزلاقها.
وجدالهم: قولهم لرسلهم عليهم السلام: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ} [يس: 15]، {وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} [المؤمنون: 24]، ونحوها. {واتخذوا آياتي} التي تخرّ لها صُمُّ الجبال، وهو القرآن، {وما أنذروا} أي: وإنذاري لهم، أو: الذي أنذروا به من العذاب والعقاب، {هُزُوًا}؛ مهزوءًا به، أو محل استهزاء.
{ومَن أظلمُ ممّن ذُكِّرَ بآياتِ ربه} وهو القرآن العظيم، {فأعْرَضَ عنها}؛ فلم يتدبرها ولم يؤمن بها، أي: لا أحد أظلم منه؛ لأنه أظلم من كل ظالم؛ حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ، {ونَسِيَ ما قدمت يداه} من الكفر والمعاصي، ولم يتفكر في عاقبتها، {إِنا جعلنا على قلوبهم أكِنَّةً}: أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، فعل ذلك بهم كراهة {أن يفقهوه}، أو: منعناهم أن يقفوا على كنهه. {و} جعلنا {في آذانهم وَقْرًا} أي: ثِقلاً يمنعهم من استماعه، {وإِن تَدْعُهُمْ إِلى الهدى فلن يهتدوا إِذًا أبدًا} أي: فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف؛ للطبع المتقدم على قلوبهم، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
و {إذًا}: حرف جزاء وجواب، وهو، هنا، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم، كأنه قال صلى الله عليه وسلم: «ما لي لا أدعوهم»؟ فقال: إن تدعهم... الخ. وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه، كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ.
{وربُّك الغفور}: البليغ المغفرة {ذو الرحمة} الموصوف بها، {لو يُؤاخذهم بما كسبوا} من المعاصي، التي من جملتها: ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل، وإعراضهم عن آيات ربهم، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات، {لعجَّلَ لهم العذابَ} قبل يوم القيامة؛ لاستجلاب أعمالهم لذلك، والمراد: إمهال قريش، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، {بل لهم موعدٌ} وهو يوم القيامة، أو يوم بدر، والمعطوف عليه ببل: محذوف، أي: لكنهم ليسوا بمؤاخذين، {بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} أي: ملجأ يلتجئون إليه، أو مَنْجىً ينجون به، يقال: وأَلَ: أي: نجا، ووأل إليه: أي: التجأ إليه.
{وتلك القرى}؛ أي: قرى عاد وثمود وأضرابها، أي: وأهل تلك القرى {أهلكناهم} بالعذاب {لمَّا ظلموا} أي: وقت ظلمهم، كما فعلت قريش بما حكى عنهم، {وجعلنا لمهلكهم} أي: عَيَّنَّا لهلاكهم {موعدًا} أي: وقتًا مُعَينًا، لا محيدَ لهم عن ذلك، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك: جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9